مجلة لأجلك _ الشيخ الدكتور بشير عصام المراكشي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
هذه إضاءات مختصرة حول موضوع منع بعض أعوان السلطة، التجارَ من بيع أثواب النقاب، كتبتُها – على عجل – تنبيها على بعض المغالطات التي يراد ترويجها في الموضوع.
✔الإضاءة الأولى:
الخلاف حول وجوب النقاب معروف في الفقه الإسلامي، ولكن لا معنى لاستدعائه في هذا المقام. وذلك أن الفقهاء اختلفوا في الوجوب، ولكن لم يختلفوا في المشروعية على الصعيد الفردي، ولا اختلفوا – على الصعيد الجماعي – في عدم جواز منع الحاكم تغطية النساء وجوههن لغير مسوغ شرعي معتبر، ولا وقع هذا في تاريخ الأمة إلا في عصرنا بعد الهجمة الحضارية الغربية!
والنقاش إنما هو في هذا تحديدا، لا في أمور أخرى خارجة عن الموضوع!
ومن كان يرى عدم وجوب تغطية الوجه – ومنهم كاتب هذه السطور – فلا ينبغي أن يتخذ اختياره الفقهي هذا مطية للتهوين من شأن هذا المنع، فإنه منعٌ لما هو مشروع في الإسلام اتفاقا. وهذا مكمن الخطر!
✔الإضاءة الثانية:
الحديث عن “الخصوصية المغربية” لتسويغ القرار، باطل من أوجه:
الأول: أنه حديث قد يُقبل في إطار نقاش مجتمعي، فيه أخذ ورد وحوار وأدلة ونقاش؛ لا في إطار ممارسة إكراهية بقوة القانون، فضلا عن ممارسة إكراهية بقوة القرار الأمني غير المستند إلى قانون مسطّر أصلا!
الثاني – وهو وجه جدَلي إلزامي: هذه الخصوصية إذا كانت تعني الفخر والاعتداد بالهوية الخاصة، دون إقصاء ولا رفض ولا كراهية، فهي مقبولة إجمالا. أما الخصوصية التي تعني الانغلاق، وإقصاء المخالف في الأذواق، وترك التسامح مع كل وارد من خارج البلد، خاصة من بلاد الإسلام الأخرى، فهي خصوصية مذمومة مخالفة لأصول ثقافة العصر.
الثالث: مشروعية تغطية الوجه (بقطع النظر عن الوجوب أو الاستحباب) ثابتة في مذهب المالكية، الذي يعدّ الإطار الفقهي التشريعي لهذه الخصوصية المغربية. وتغطية الوجه كان أمرا شائعا في المغرب منذ قرون دون إشكال، إلى عهد قريب جدا.
الرابع: هذه الخصوصية لا تراعى في أمور أخرى كثيرة، بدءا باللباس نفسه، فمن الواضح أن أغلب المغاربة يرتدون الألبسة الأوروبية لا المغربية، ومع ذلك فلا حديث عن خصوصية ولا منع!
✔الإضاءة الثالثة:
حديث بعض الناس عن أن الممنوع نوع معين من النقاب، هو البرقع أو النقاب الأفغاني، فيه مغالطات:
الأولى: لفظ “البرقع” في هذا المقام مصطلح مأخوذ من فرنسا، وهم يقصدون به عموم غطاء الوجه، ولذلك يرادفون بينهما فيقولون (La burqa) أو (Le voile intégral) بالمعنى ذاته.
الثانية: “النقاب الأفغاني” المعروف غير موجود في المغرب، وإنما وقع استيراد الخلط الفرنسي بحذافيره. وذلك أن كثيرا من الفرنسيين يعبرون بـ”النقاب الأفغاني” ويقصدون مطلق غطاء الوجه.
الثالثة: من حق أي أحد أن يعتبر لبس النقاب المغربي أفضل، كما أن من حق غيره أن يعتبر لبس العباءة المشرقية أفضل، لاعتبارات شرعية أو جمالية أو عملية أو غير ذلك. لكن هذا كله ليس موضوع النقاش، إذ الأفضلية لا تقتضي تعميم منع المفضول! وهذا لا يكون ولم نعرفه في التاريخ الحديث إلا في أعتى الديكتاتوريات الشيوعية، كالذي حدث إبان الثورة الثقافية في الصين زمن ماوتسي تونج، حين كانت الدولة تمنع كتبا معينة، أو أعمالا فنية مخصوصة، ونحو ذلك.
لكم أن تفضلوا لباسا معينا، ولكن ليس لكم أن تمنعوا لباسا آخر، لغير مسوغ معتبر. وهذا يجرنا إلى:
✔الإضاءة الرابعة:
يتحدث بعض الناس عن أن مسوغ هذا المنع، مراعاة الاعتبارات الأمنية.
ولنا أن نسأل: هل تُعرف في المغرب حادثة واحدة ثابتة، استعمل فيها مجرم أو “إرهابي” النقابَ المشرقي للتستر عن نظر رجال الشرطة؟
الجواب: لا.
وعلى فرض الوجود، فإننا نقول:
إن عدد هذه الحوادث قليل جدا، ولا يمكن أن يسوّغ ضرب الحرية الفردية لآلاف النساء “البريئات”، البعيدات عن كل المخالفات القانونية.
هذا الاعتبار الأمني ليس خاصا بالنقاب المشرقي كما لا يخفى. ومقتضى ذلك أن من يقول بهذه العلة الأمنية، فإنه يسعى لمنع تغطية الوجه مطلقا، كما هو الحال في فرنسا مثلا، وإلا وقع في تناقض واضح.
يمكن معالجة الإشكال الأمني – على فرض وجوده – بسهولة بالغة، وذلك بأن يطالِب رجال الشرطة من يشتبهون بها (أو به!) بكشف الوجه للضرورة الأمنية، مع مراعاة شروط معينة تحترم الحرية الشخصية والكرامة الإنسانية. وهذا كما يُطلب من صاحب السيارة أن يفتح الصندوق الخلفي عند الاشتباه، ولكن لا تطلب الدولة من صانعي السيارات إلغاء هذه الصناديق، لاحتمال ستر الممنوعات فيها، كما لا تطلب الدولة من السائقين التجول بصناديق خلفية مفتوحة، خوفا مما يمكن إخفاؤه فيها! وكما يطلب الشرطي ممن اشتبه فيه أن يخرج ما في جيبه، ولكن لا تمنع الدولة خياطة الجيوب في ثياب الناس، لأن المجرمين يضعون فيها أسلحة أو مخدرات!
هنالك أمور أخرى كثيرة لها دور واضح في زعزعة الأمن، ولكن لا أحد يبذل جهدا في منعها!
من ذلك مثلا: الخمر، الذي تُحصد بسببها آلاف الأرواح، ومع ذلك تباع جهارا نهارا، دون إشكال.
ومنها: السكاكين الكبيرة، التي يستعملها المجرمون في ترويع الآمنين، وهي تباع أيضا دون منع ولا تقنين.
ومنها: كرة القدم، التي تسبب مبارياتها كوارث أمنية متكررة، ولا أحد يفكر في منع اللعبة مثلا.
ويمكنك أن تفكر في أمثلة أخرى كثيرة، ولكن النظرة العلمانية المادية لا يمكنها أن تمنع ما فيه منفعة مادية أو تجارية، وإن اقترن به فساد عريض في المجتمع. أما ما فيه ارتقاء روحي ومصلحة شرعية خالصة، فلا يرى أصحاب هذه النظرة غضاضة في تسليط سيف المنع عليه!
✔الإضاءة الخامسة:
هذه مجموعة من المصطلحات، التي تُرفع – في عالم اليوم – شعاراتٍ، لم نر لها كبير أثر في هذه القضية!
التسامح: لا يجتمع مع إقصاء طائفة كبيرة من النساء، والتضييق عليهن، لقناعاتهن الشخصية!
الوسطية والاعتدال: لا يجتمعان مع الغلو في فرض الرأي، والتطرف في المنع والإكراه.
الحرية وحقوق الإنسان: لا تجتمع مع ضرب الحرية الشخصية للأفراد، في التصرف واللباس (ما لم تؤثر على حرية الآخرين؛ وذلك منتفٍ في حالتنا).
الديمقراطية: لا تجتمع مع فرض رأي الأقلية، دون استشارة الأغلبية في الموضوع.
دولة القانون: لا تجتمع مع التصرفات الأمنية غير المستندة إلى قانون صادر عن المؤسسة التشريعية.
✔الإضاءة السادسة:
هذه ليست قضية تافهة، وليست من القشور، وليست وسيلة من وسائل الإلهاء ..
هذه قضية شريعة ودين .. وهي بذلك أهم بكثير من الجدالات والصراعات التي ينشغل بعض الناس بها، ويعطونها أوقاتهم وجهودهم، مع أن غاية ما يرجى فيها – بعد اللتيا والتي – إصلاحٌ مادي دنيوي جزئي، لا يقدم في قضايا الشريعة ولا يؤخر ..
ما وصلنا لحالتنا هذه، إلا بعد سلسلة متلاحقة من التنازلات الشرعية منذ عقود:
تارة بدعوى تفاهة الموضوع، وأن العبرة بالكليات لا الجزئيات ..
وتارة باستدعاء خلاف فقهي شاذ، في مواجهة من لا يعتد بالفقه أصلا، ولا يرفع به رأسا ..
وتارة بدعوى جلب مصلحة أو درء مفسدة أكبر ..
وتارة بالإصرار على مواطن الخلاف، وهجر مواضع الائتلاف بين أهل الخير، فيجد المفسدون في تنازعهم فرصة لبث فسادهم ..
وهكذا دواليك ..
والنتيجة الحتمية: ضياع الكليات بعد الجزئيات، والأصول إثر الفروع، وذهاب المصالح واستشراء المفاسد، والانحراف المتزايد عن الصراط القويم: سبيل الشرع الإلهي!
✔الإضاءة السابعة:
هذه ليست قضية طائفة مخصوصة من المسلمين. ومن فهمها كذلك فهو واهم، لم يتدبر الأسباب والمآلات!
ولذلك فإنني أدعو عموم المسلمين إلى الحذر من أن يؤكلوا يوم أكل الثور الأبيض، فإن التضييق على الحريات الفردية إذا بدأ دون رقيب لم يستثن أحدا!
وأدعو الإسلاميين بجميع طوائفهم إلى إبداء الرأي في هذه النازلة، وأن لا تلهيهم الوسائل التي يتخبطون في تحصيلها، عن الغاية التي يسعون إليها!
وأدعو الدعاة والعلماء إلى البيان الشرعي، الذي هو مهمتهم الأولى في الحياة ..
وأدعو أعضاء المجالس العلمية خصوصا إلى بيان الحق، فليبينوا حكم الشرع في هذه النازلة، وليضيفوا لذلك لزوما حكم الله في العُري المنتشر في البلاد ..
وأدعو الحقوقيين والمدافعين عن الحريات الفردية، إلى الحديث في هذه القضية، قبل أن يجدوا أنفسهم أمام تضييقات حقوقية كثيرة، خارج سلطة القانون.
وأخيرا .. أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وينير دربنا، ويهدي ضالنا إلى سواء السبيل.
والله الموفق.